الشريط الإخباري

في العراق مرضى التوحد..ضحايا الجهل وسوء التشخيص الطبّي والإهمال الحكومي

في العراق مرضى التوحد..ضحايا الجهل وسوء التشخيص الطبّي والإهمال الحكومي




رصد-الحديدة اكسبرس

19-7-2023



 لا توجد أرقام رسمية في العراق بشأن أعداد المصابين بالتوحد، لكن تقديرات تظهر أن هناك عشرات الآلاف منهم في كل محافظة، في حين تفتقد غالبية المحافظات مراكز تأهيل حكومية متخصصة، وهذا يعقّد من فرص تأهيلهم، بخاصة في ظل غياب الوعي المجتمعي بكيفية التعامل معهم.



تأخُّر مجتبى صالح في النطق وهو يجتاز عامه الثالث، لم يكن كافياً لتوقّع إصابته بأي مرض من قبل عائلته، فسائر إخوته الذين يكبرونه سناً وعددهم خمسة، لم يتحدثوا إلا بعد اقترابهم من سن الثالثة حسب رواية والدتهم، التي تقول إنها “حالة وراثية في العائلة”.


 لكن بلوغه الرابعة من دون اكتسابه القدرة على التعبير إلا بالبكاء والصراخ، أدخل الشك الى قلب أمه، فضلاً عن شقيقته الكبرى سجى، التي تعمل في مجال التمريض، والتي خشيت في البداية من إصابة مجتبى بضمور في الدماغ، غير أن طبيب الجملة العصبية استبعد ذلك الاحتمال بعد سلسلة فحوصات، كما أثبتت معاينة طبيب الأنف والأذن والحنجرة عدم مواجهته مشكلة في السمع. 


لم يكن أمام عائلة مجتبى، التي تسكن مدينة الحلة، مركز محافظة بابل 100 كم جنوب العاصمة بغداد، سوى مراجعة اختصاصي بالنطق والمخاطبة، وإخضاع الصغير لجلسات تدريب فردية ليكتسب مهارات التواصل، تقول الأم بنبرة حزن: “بدأ يفهم ما نقوله له، لكنه لم يكن طفلاً طبيعياً، لم يتمكن من النطق ولم يتواصل معنا كما يتواصل أي طفل مع أفراد عائلته”.


شهراً بعد آخر، أيقنت العائلة أنه يعاني من مشكلة أبعد من تأخّر النطق، وتوجّب الأمر مراجعة طبيب اختصاصي بأمراض الجملة العصبية والعقلية. “تأخرنا في استشارته كثيراً، إذ تبين أن مجتبى مصاب بالتوحد”، تقول شقيقته بصوت مرتجف، وتضيف: “لم يخطر ببالنا هذا المرض اللعين أبداً”.


لا توجد أرقام رسمية في العراق بشأن أعداد المصابين بالتوحد، لكن تقديرات تظهر أن هناك عشرات الآلاف منهم في كل محافظة، في حين تفتقد غالبية المحافظات مراكز تأهيل حكومية متخصصة، وهذا يعقّد من فرص تأهيلهم، بخاصة في ظل غياب الوعي المجتمعي بكيفية التعامل معهم.


يبلغ عمر مجتبى الآن سبع سنوات، ونظراً الى خلو محافظة بابل من مركز حكومي لمعالجة التوحد، اضطرت عائلته إلى زيارة مركزٍ لتأهيل أطفال التوحد تشرف عليه العتبة الحسينية في كربلاء (140 كم جنوب بغداد)، وبعد جلسات مطوّلة بإشراف متخصصين في ذلك المركز، استطاع مجتبى أخيراً النطق ببضع كلمات عبّر بها عن نفسه.


مشقة الطريق وتكاليفه، دفعت العائلة إلى تسجيل مجتبى في معهد أهلي بمدينة الحلة، لكنه “مركز توحد على اللافتة الخارجية فقط” حسب تعبير شقيقته سجى، التي تقول “فقد أخي المقدرة على النطق، وعاد الى البكاء بعد أقل من شهر على تسجيلنا له في المعهد الأهلي، لم أفهم السبب حتى رأيتُ بالصدفة مقطعاً مصوراً انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي للطريقة القاسية التي يتعاملون بها مع الأطفال، وأجزم أن من في المعهد لا يعرفون شيئاً عن التوحد، لهذا عدنا به مجدداً الى المركز العلاجي في كربلاء”.


“بدأ يفهم ما نقوله له، لكنه لم يكن طفلاً طبيعياً، لم يتمكن من النطق ولم يتواصل معنا كما يتواصل أي طفل مع أفراد عائلته”.


غياب الإحصاءات


تعرّف منظمة الصحة العالمية مرض التوحد، الذي صُنّف كمرض منفصل عن الفصام في 1980، على أنه “مجموعة من الاعتلالات المتنوعة التي تتصف ببعض الصعوبات في التفاعل الاجتماعي والتواصل، وصعوبة الانتقال من نشاط إلى آخر والاستغراق في التفاصيل وردود الفعل غير الاعتيادية”.


وبحسب أطباء متخصصين، ثمة عوامل عدة لظهور التوحد، منها وراثية وبيئية يحدث تأثيرها في المراحل الأولى لنمو الدماغ، مؤكدين غياب أي إحصاء دقيق لأعداد المصابين بالتوحد في العراق، على رغم تزايدها في العقدين الأخيرين بنحو ملحوظ.


هذا التزايد رصدته وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في 2021، مرجعة ذلك الى زواج الأقارب وأساليب التنشئة الاجتماعية الخاطئة التي تتبعها بعض الأسر، وسوء تشخيص المرض، وما يزيد من المشكلة هو قلة المراكز المخصصة لعلاج الأطفال المتوحّدين وتأهيلهم.


ووفقاً لإحصاءات منظمة الصحة العالمية، فإن 1 في المئة من الأطفال في العالم مصابون بالتوحد، وهو يصيب الذكور أربعة أضعاف ما يصيب الإناث، وهنالك من يسقط هذه النسبة على أطفال العراق ليحصروا أعداد المصابين بالتوحد فيه بما يقرب من 200 ألف طفل بالاستناد الى توقعات وزارة التخطيط لسنة في 2022، والتي أكدت أن نسبة السكان الذين تقل أعمارهم عن 15 عاماً بلغت 40.5 في المئة من مجموع السكان.


ذلك الرقم التخميني بشأن أعداد المصابين، هو ذاته الذي ذكره ممثل المرجعية الدينية في النجف الشيخ عبد المهدي الكربلائي، خلال افتتاحه مركز التوحد المنجز من قبل العتبة الحسينية قبل عام.


وبحسب موقع “وايس فوتر”، يحتل العراق المرتبة الـ 193 عالمياً في الإصابة بالتوحد لدى الأطفال بمعدل 328.27 طفل مصاب لكل 100 ألف طفل، ويرصد الموقع أكثر من 125 ألف مصاب بالتوحد من مختلف الأعمار.


أما وزارة التخطيط، فقد رصدت في إحصاءاتها أكثر من 350 ألف معوق بالفهم والإدراك، لكن لا شي في هذه الإحصاءات يشير الى التوحد بعينه. وفي تقريره عن سياسة الدولة في التعامل مع اضطراب التوحد، أشار ديوان الرقابة المالية في تقريره لسنة 2015، وهو آخر تقرير صدر عنه، الى عدم وجود قاعدة بيانات موحدة تتضمن دمج أعداد المرضى المشخصين بالتوحد من قبل وزارة الصحة والمسجلين ضمن معاهد وزارة العمل والشؤون الاجتماعية والمعاهد الأهلية.


غير أن تضارب الإحصاءات لا ينفي تفاقم المشكلة في ظل ضعف مستوى الخدمات الصحية والخدمية والتأهيلية لمرضى التوحد في العراق، فلغاية الآن لم يتم افتتاح سوى مركز حكومي واحد فقط لتأهيلهم في بغداد وسط انتشار واسع للمراكز الأهلية التي أثقلت كاهل العائلات التي بين أفرادها طفل مصابٌ بالتوحد، اذ تصل أجور كلفة تأهيل الطفل المتوحد فيها الى 500 ألف دينار شهرياً (350 دولاراً تقريباً).


أطباء غير مدربين وتشخيص متأخّر

يستطيع الآباء ملاحظة أعراض التوحد في السنتين الأوليين من عمر أبنائهم، لكن الطبيب المتخصص بالأمراض النفسية والعقلية محمد عادل، يشير الى أن تأخر وصول الأطفال المصابين بالتوحد الى الاختصاصيين يشكل عائقاً أمام التشخيص المبكر للمرض. 


ويقول، “على رغم أن العراق يعتمد على نظام التشخيص DMS-5 لتشخيص التوحد، إلا أن معظم العائلات تلجأ الى أطباء غير قادرين على تشخيص التوحد بسبب عدم تخصّصهم، ما يسبب ضياع أطفال التوحد بين مختلف التخصصات الطبية”.


وDMS-5 هي أداة التصنيف والتشخيص التي نشرتها الجمعية الأميركية للطب النفسي في الولايات المتحدة، وتُعتبر الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية وعلاجها. يتابع الطبيب، “لا يتم تدريب الأطباء النفسيين العراقيين في مراكز متخصصة في دول أكثر خبرة بالتعامل مع التوحد، وهذا ما يحد من وجود أطباء أكثر مهارة في تشخيص المرض وعلاجه، وتطبيق البرامج العالمية في التعامل مع مرضى التوحد”.


ويشدد على ضرورة تشخيص المرض في وقت مبكر لكي يتعلم المصاب مهارات التواصل وهو في سن صغيرة، وينعكس ذلك على حالته بنحو إيجابي فضلاً عن محيطه. 


ويلفت عادل الى النظرة الاجتماعية إلى الطبيب النفسي واعتباره طبيباً “للمجانين فقط”. ويصف ذلك بالمعضلة، إذ إن تشخيص التوحد هو من اختصاص الطبيب النفسي، والوصمة الاجتماعية تحول دون التوجه إليه في ظل تزايد ملحوظ في أعداد الأطفال المتوحدين، ودعا إلى ضرورة القيام بإجراءات اجتماعية مصاحبة للرعاية التي تستهدف المصابين بالتوحد للحد من انتشاره.


وتوافقه المتخصصة بالأمراض النفسية والعقلية بتول العيسى الرأي، إذ تقول: “يولد الطفل متوحداً، فالتوحد ليس مرضاً مكتسباً ويمكن تشخيصه في الأشهر الأولى من عمر الطفل، لكن الكثير من العائلات تجهل التوحد وأعراضه بسبب انعدام التثقيف به”.


مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها CDC، حدد سبعة مناهج علاجية للتوحد، ستة منها تحاول التخفيف من مظاهر العجز والسلوكيات غير الطبيعية المرتبطة بالتوحد وتحسين نوعية الحياة. 


أما السابع فهو الدوائي، والذي تُستخدم فيه أدوية تعالج الأعراض المصاحبة للتوحد، والتي يمكن أن تساعد في إدارة مستويات الطاقة العالية أو عدم القدرة على التركيز أو سلوك إيذاء النفس، مثل ضرب الرأس أو عض اليد.


 ويمكن أن تساعد الأدوية أيضاً، في إدارة الحالات النفسية التي تحدث، مثل القلق أو الاكتئاب، بالإضافة إلى الحالات الطبية مثل النوبات أو مشاكل النوم أو مشاكل المعدة أو غيرها من مشاكل الجهاز الهضمي.


قلة الكوادر المتخصّصة


ينبه تقرير لديوان الرقابة المالية، الى قلة الكوادر التعليمية المتخصصة بتعليم الأطفال المتوحدين ورعايتهم وضعف تدريبهم، إضافة الى قلة أعداد الأطباء النفسيين المنتسبين الى وزارة الصحة، إذ يحتاج العراق الى 12 ضعف عدد الأطباء النفسيين الحاليين.


كما يشير التقرير الى افتقار مركز تشخيص العوق التابع لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، الى بعض الاختصاصات الطبية المناسبة والمكلفة من وزارة الصحة، إضافة الى عدم مواكبة التطور في تشخيص التوحد والاعتماد على استمارات لا تغطي جميع المعلومات اللازمة للتشخيص، ما يؤثر سلباً على الأطفال المصابين به.


ووفق تقارير غير رسمية، هناك طبيب نفسي متخصص واحد فقط لكل مليون فرد عراقي، بمعنى أن البلاد ليس فيها أكثر من 50 طبيباً نفسياً متخصصاً.


أم آدم (من ديالى 57 كم شمال بغداد) كانت لها تجربة تصفها بـ “المريرة” بسبب اختلاف التشخيص، فبعدما بلغ ابنها آدم عمر السنتين من دون أن ينطق وصار يتفاعل مع محيطه بعصبية، راود الشك شقيقتها التي تعمل في قطاع الصحة، في أنه مصاب باضطراب التوحد. 


تقول الأم، “لم أكن أعرف شيئاً عن التوحد قبل معرفتي أن ابني مصاب به، كنت أستغرب من غضبه المفرط وضربه لرأسه، نبهتني أختي الى احتمالية أن يكون متوحداً، وبالفعل هذا ما كان تشخيص الطبيب النفسي له”.


 وصف الطبيب أدوية عدة لآدم، أثرت في نشاطه وبات واضحاً تأثيرها عليه، وفقاً لما تقول الأم، التي بحثت في الإنترنت لتعرف ماهية تلك الأدوية، فاكتشفت أنها مجرد مهدئات، فلجأت إلى طبيب آخر، شخّص حالة آدم بأنه “اضطراب فرط الحركة وتشتّت الانتباه”.


وتلفت الى أن “الطبيب الجديد غيّر الأدوية، لكن الحال بقيت على ما هي عليه، فطفلي إما نائم أو لا يتحرك، فما كان مني إلا أن تخلصت من الأدوية وفتشت عن طبيب آخر”، واصفة تفاصيل رحلة آدم العلاجية برحلة “الألف طبيب”!، والتي انتهت بتشخيص ثلاثة أمراض من دون علاج مؤثر مع حمية غذائية قاسية، حسبما تقول الأم، وتتابع: “آخر طبيب أخبرني أن آدم لديه كهرباء زائدة في دماغه ومصاب بالتوحد واضطراب الحركة المفرطة وتشتت الانتباه”.


يبلغ آدم الآن ست سنوات، وعائلته في حيرة من أمرها لعدم تمكّنها من العثور على علاج يمنع تدهوره الصحي، وهي تشكو من عدم وجود رعاية حكومية لمثل حالته في محافظة ديالى.


تبرز لدى المصاب بالتوحد صفات عدة، منها عدم استجابته عند مناداته باسمه وكأنه لا يسمع في بعض الأوقات، رفضه العناق والإمساك به، اللعب بمفرده، ضعف في التواصل البصري، غياب تعبيرات الوجه، تأخر في الكلام، عدم القدرة على بدء محادثة أو الاستمرار فيها، التكلم بنبرة غير طبيعية، تكرار الكلمات أو العبارات الحرفية، عدم فهم الأسئلة أو التوجيهات البسيطة، عدم التعبير عن عواطفه أو مشاعره، عدم الإشارة إلى الأشياء أو جلبها لمشاركة اهتماماته، عدم التفاعل اجتماعياً، العدائية، صعوبة التعرف على الإشارات غير اللفظية، مثل تفسير تعبيرات الوجه الأخرى للأشخاص أو وضع الجسم أو لهجة الصوت.


شيماء الهاشمي، وهي سيدة من محافظة بغداد، تعاملت مع التوحد بطريقة مختلفة ألهمت الكثيرين، وتعج مواقع التواصل الاجتماعي بمقاطع فيديو لطفليها المصابين بالتوحد، ويتابعهما ما يقارب المئة ألف على “إنستغرام”.


بدأت رحلة شيماء مع التوحد قبل 12 عاماً، حين بلغت ابنتها الكبرى آية سن الخامسة، اذ كانت ترجع سبب غرابة تصرفاتها الى عدم قدرتها على الرؤية، فقد وُلدت مكفوفة، لكن التشخيص الطبي لاحقاً من قبل معالج متخصص في أحد المراكز الأهلية ببغداد، أكد إصابتها بالتوحد.


تقول: “لم تكن لدي أي معلومات عن التوحد، لكن تشخيص آية دفعني الى القراءة عنه وتعلم أساليب تأهيل الأطفال المتوحدين ورعايتهم”.


بعد تشخيص حالة آية بعام واحد، ولد شقيقها محمد، الذي يبلغ اليوم 11 عاماً، وتم تشخيص إصابته بالتوحد في أسابيعه الأولى، “وُلد مكفوفاً أيضاً وحركاته تشبه حركات آية منذ يومه الأول، لم أستبعد أبداً إصابته بالتوحد وبدأتُ بالتعامل معه كطفل متوحد قبل بلوغه الشهر الأول من عمره” تقول شيماء.


ترى شيماء التي بلغت عقدها السادس، أن دراسة التوحد والتعامل مع طفلين متوحدين مكفوفين دفعت ثمنهما تركها وظيفتها في وزارة التجارة والتفرغ لتأهيل طفليها والعناية بهما.


تقول عن ذلك: “أطفال التوحد والأطفال ذوو الاحتياجات الخاصة جميعهم غير مدعومين من الدولة، وهذا ما يؤثر سلباً على ذويهم، إذ لا توجد مراكز أو مدارس خاصة بهم، وليست لديهم أي حقوق، ما جعلني أواجه التوحد والمجتمع غير الواعي به بنفسي، وقد كانت للتنمر حصة خاصة في رحلة المواجهة”.


استطاعت شيماء، بعد العمل على تأهيل طفليها لمدة تقارب الـ 12 عاماً، من تنمية مهاراتهما الحياتية، وكذلك التثقيف بشأن المرض عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، فآية تمتاز بسرعة حفظ ومحمد يعزف على البيانو ويؤدي مختلف الأغاني التراثية، ويحظى كلاهما بتقبل وتشجيع من قبل المجتمع عموماً والمشاهير بخاصة. وهي تشدد على ضرورة أخذ الحكومة ذوي الاحتياجات الخاصة بالاعتبار، كونهم “جزءاً من المجتمع”، وتضيف: “رسالتي لكل أم لطفل متوحد، تذكري أن الله اختاركِ لتكوني أماً مميزة لأطفال مميزين، وأنتِ قادرة على صنع المستحيل”.



_________

المصدر منصة درج حنان سالم

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال