قراءة تحليلية لكتاب “حتى الرمال تزهر..” للكاتبة فيروز بغيل
كتبت د. سامية الاغبري
ديسمبر 29, 2025
![]() |
| الكاتبه فيروز بغيل |
يعكس الكتاب روح الصحراء بكثبانها الرملية وخيالها الخصب، فمن عنوانه وفكرته تجد تهامة متجذرةً فيه، فقد جعلت الكاتبة الرمال تُزهر بروحها التواقة للحياة، فمن يقرأ كتابها الثري بتنوع موضوعاته، وعمقه “حتى الرمال تزهر…”، لا يشعر بالملل، فكل كلمةٍ لها دلائل عميقة، وتحتاج لقراءةٍ وإعادة قراءة.
فالكاتبة لديها قدرةٌ على سبر أغوار النفوس، والولوج إلى أعماق الروح، واستخراج الكنوز المعرفية منها، فالكاتبة تنحاز للكادحين، والمظلومين، فعنوان الكتاب اختيار موفق، ففيه دفقةٌ قوية من التفاؤل والأمل، يُخرجنا من إحباطات الواقع المُر، ويفتح لنا نافذةً للمستقبل.
فلو تمعّنّا في العنوان جيدًا سنجدها كاتبة لا تعرف المستحيل حين تصور لنا الرمال في الصحراء القاحلة بأنها يمكن أن تُزهر، وتُلحق ذلك بجملةٍ: “حين يكون اليأس طريقا للأمل” أي أنه لا مستحيل طالما لدينا أمل في الحياة.
ويأتي الإهداء بشكل غير تقليدي فهي تهديه إلى ذلك الإنسان الذي يجلس تحت شمسٍ حارقة في الصحراء يُحدق في الأفق، وينتظر موكبًا من الزهور قادمًا من بعيد، وحين سَخِروا منه، ابتسم وقال: “على الأقل، عندي مقعد في الصف الأول للمعجزة”. يا له من تعبيرٍ عميق الدلالة والمعنى، حين تُصوّر قسوة الطبيعة بشمسها الحارقة على إنسان الصحراء الذي لم يفقد الأمل بغدٍ أفضل رغم أن الكل يسخر منه.
وقد قسمت الكاتبة كتابها، الذي يحوي مقالات وخواطر، إلى خمسة فصولٍ، كل فصلٍ أبدعت في اختيار عنوانه، والحِكًم أو الكلمات المأثورة التي اتكأت عليها كي تنطلق من ذلك إلى محتويات الفصل الذي يعكس عنوانه وما اقتبسته من مفكرين وعلماء من شتي المناحل الفكرية ما جاء في مضمون الفصل، فالكاتبة لا تتعصب لتوجهٍ فكري معيّن بل ينفتح على كل الأفكار والتوجهات، وتأخذ منها ما يتلاءم مع تأملاتها وخواطرها العميقة.
ففي واجهة الفصل الأول كان عنوانه “يقظة الروح”، اختارت له كلمات مأثورة للمفكر المصري “مصطفي محمود”، وكان هذا الاختيار موفقًا لأنه يحمل دفقاتٍ من الروحانية، حيث تقول الكلمات: “الروح المستيقظة ترى الكون كله في ذرة، والخلود في لحظة”؛ مما يعني أن الله هو الملاذ، ولا حياة للإنسان بدون الجانب الروحي.
وسأقتطف لكم بعضًا من العبارات البسيطة والعميقة في آنٍ واحد من هذا الفصل، تتأمل الكاتبة ما يدور في أعماق مشردٍ ومتسولٍ في الطرقات، وما أوصله لذلك بأسلوبٍ غير مباشر، حيث تقول: “كم مرةٍ نام جائعًا بينما كانت المدينة تضج بالولائم”، تعبير عميق عن الظلم وعدم الشعور بالمحتاجين.
“العقول العظيمة ليست التي تمتلك الإجابات، بل تلك التي لا تتوقف عن طرح الأسئلة..”،
كما أكدت على أهمية التفكير بطريقةٍ تأملية، والقبول والتعايش مع الذات والآخر، وتطرقت أيضًا إلى مفهومها للسلام بقولها: “الحروب لا تتعلق بالنصر أو الهزيمة، الحروب في داخلنا تتصالح مع الذات، كما تتحدث عن تعقيد الحياة وتناقضها، وتُركز على أهمية السينما والموسيقى التي تعيد تشكيل وعينا.
ومن أهم العبارات التي رصدتها قولها: “العقول العظيمة ليست التي تمتلك الإجابات، بل تلك التي لا تتوقف عن طرح الأسئلة..”، فأحيانًا تتساءل وتطرح لنا بعض الإجابات، حيت تثير الكاتبة تساؤلاتٍ مهمة جدًا، ثم تقدم إجاباتٍ بأن ما نعانيه ابتلاء، ولكنها ترى أننا يجب أن نأخذ بالأسباب ونواجه من ظلمنا.
وتبعث فينا الكاتبة الأمل في الحياة حين تقول: “أنْ تحب الحياة رغم كل شيء، وأنْ ترقص معها على لحنٍ حزين؛ لأن بعض الألحان الحزينة، رغم شجنها، تملك سحرًا لا يُقاوم …”، وترى الكاتبة أن الحياة هي اللحظة، وأن الحياة لا تتوقف عند محطةٍ معينةٍ فالتوقف هو الموت.
كما تطرح الكاتبة تعبيراتٍ غير مألوفةٍ تُحفّز الفكر، وتُثير التساؤلات، حين توضح أن “الهروب أحيانًا لا يعني الخوف، وأن التراجع أحيانًا، هو أعمق شكلٍ من أشكال الشجاعة”.
وتتميز الكتابة بأسلوبها الأدبي الممتع والمُعبّر عن المعنى بعمق، مثلًا حين تقول: “تعلمتُ أن الانتظار لا يطيل العمر.. بل يأكله”. وقد رأت الكاتبة أن الجانب المظلم في شخصيتنا هو الجانب الذي لا نظهره، ولكنها تراه الجانب الصادق فينا والمعبر عنا.
وهناك الكثير من التعبيرات التي تحمل معانٍ عميقةً، كأن تقول على لسان سائق الحافلة: “إن الغربة ليست أن تكون بعيدًا، بل أن يكون بيتك أمامك ولا تستطيع دخوله..”.
وفي الفصل الثاني اختارت الكاتبة عنوانًا معبرًاا عن محتواه، أسمته “أرشيف الذاكرة”، واستشهدت بمقولة لـ”إيمانويل جيمس رون”: “إنه لا يمكن العودة لتبدأ من جديد، أن تبدأ الآن لتبني نهاية جديدة”.
وهكذا تغوص بنا الكاتبة في الأعماق مؤكدةً أن العودة إلى النفس هي العودة للطفولة، ففي عنوان “جذور لا تنكسر”؛ تلخص لنا فكرة هذا الكتاب القًيم. وتقدم عباراتٍ موحيةً تُعلمنا دروسًا في تنمية الذات حين تقول مثلًا: “لو تعلمنا أن نرى الأشياء بحجمها الحقيقي، أن نتعامل مع الاحزان كضيوف عابرين لا كأصحاب بيت..”.
ومن كلماتها العميقة والمعبرة: “الكلمات الحقيقية ليست في النصوص، بل في المساحات البيضاء التي نتركها بين السطور كأننا نخشى أن نكشف أكثر مما نحتمل”.
وتنتقل بنا الكاتبة في الفصل الثالث إلى ما أسمته: “سحر التفاصيل الصغيرة”، فتقتبس مقولةً للشاعر والرسام الإنجليزي “وليم بليك”: “يمكن للمرء أن يرى العالم في حبة رملٍ، والجنة في زهرةٍ برية”.
“حتى الرمال تزهر.. عندما يكون اليأس طريقك للأمل” يقدم دروسٍ في التنمية البشرية للذات
يُركز الكتاب في هذا الفصل على التفاصيل الصغيرة، ويُبحر فيها، فمثلًا في خاطرةٍ عن “المرأة مكانها المطبخ” كمقولةٍ تتردد، تتعامل الكاتبة معها بأسلوبٍ محببٍ وممتع، حيث تُحوّل الطباخة والمطبخ إلى عالمٍ من الإبداع والصبر، من خلال المحاولة والخطأ، وتُعلق على المقولة بـ:”المطبخ للجميع، إنه مساحةٌ للإبداع، والاحتواء، وصنع الذكريات، فتصف المطبخ بأنه الحياة نفسها..”.
وفي مقالةٍ بعنوان: “الضوء الذي لا ينطفئ”، وتقصد بها الروح التي تُقاوم، وتُعيد النهوض من جديد، وتعطي شحنةً قويةً من الأمل حين تختم مقالتها بالقول: “الحياة لا تُعزّي المنكسرين، لكنها تمنح الذين ينهضون فرصةً أخرى، والفرصة دائمًا موجودة، بانتظار من يمد يده إليها.”
كلماتها حكمٌ حين تقول متسائلة: “لماذا تتمسك بالألم كأنه جزء منك، ولماذا تُثقل كاهلك بأحزان مضت، بينما الأرض تغسل نفسها بالمطر..”، فلا تترك الكاتبة موقفًا إنسانيًا إلا ووثّقت اللحظة بحسّها المرهف وفكرها العميق، حتى أحاديث الباصات واللقاءات العابرة تتأمل في مغزاها.
فمثلا تقول: “ينزل الركاب، يختفي الضحك، تهدأ الأصوات، ويعود الباص فارغًا ليمتلئ من جديد بحكاياتٍ أخرى، هذه الأحاديث العابرة…، هي جزءٌ من نسيج الحياة اليومية”.
أما الفصل الرابع عنون بـ”الطريق إلى الأمل” اختارت الكاتبة حكمةً صينيةً مفادها: “لماذا نُلقي بأنفسنا في الماء قبل أن تغرق السفينة”، وهو اختيار موفق ومتناغم مع ما جاء في الفصل.
حيث بدأت الكاتبة هنا بنبش الألم الساكن في أعماقنا حين تقول: “كم مرةً رفعتَ رأسك وابتسمت، بينما كان داخلكَ ينهار كمدينةٍ ضربها زلزال..”، تعبير عن حجم الوجع في داخلنا، ثم تُعقّب بالقول: “كم مرةً قلتَ أنا بخير بينما كل شيءٌ فيك يلفظ أنفاسه الأخيرة !”.
كثيرة هي التعبيرات التي تحمل لمساتٍ أدبيةً وعمقًا فكريًا، نقتطف منها قولها: “…هناك في العمق، حيث لا تصل الأعين، يبقى الحزن جالسًا بهدوء، ينتظر لحظة ضعفٍ ليسقط كل الأقنعة…”.
وتواصل: “في لحظةٍ ما، علينا أن نتوقف من الهروب، أن نعترف لأنفسنا أننا لسنا بخير، أن نسمح لقلوبنا بالبكاء، أن نكون صادقين لو لمرةٍ واحدة، ففي النهاية القلب الذي يبكي بصمت، سينفجر يومًا بصوتٍ لا يسكت”.
ويستمر الكتاب في إدهاشنا وإثارة تساؤلاتنا ففي خاطرةٍ بعنوان: “الخوف.. الوهم الذي صار رفيقًا”، ترى الكاتبة أن الخوف ليس سوى وهمٍ يرافقنا، فلا ندعه يحدد مستقبلنا.
وتواصل تحفيز القراء بالقول: “في لحظات الحزن، نحن أكثر قوةً مما نعتقد..، الألم لا يغيرك إلا إذا سمحت له، وقلبك قادر على تحويله إلى دروس قوةٍ وإرادة؟”.
وتستمر الكاتبة في تقديم دروسٍ في التنمية البشرية للذات، حين تقول: “كرستُ حياتي للأهل، والأصدقاء، الزملاء.. كنتُ اليد التي تمتد، والقلب الذي يحمل، والسند الذي لا يسقط، ومع ذلك لم أكن يومًا السند لنفسي…”.
وتصل من خلال الحوار الداخلي ” المونولوج” مع نفسها إلى نتيجة مفادها: “أنتِ تستحقين، التفتِ إليكِ ولو مرةً واحدة”.
كما تقدم الكاتبة رؤيتها للفراغ الذي يعانيه العاطل بأنه اختبار قاسٍ لا يمكن تجاوزه إلا بالعمل، حيث تقول: “أنْ تكون منشغلًا يعني أن تكون حيًا…، أن تترك أثرًا في الحياة، بدل أن تمر فيها كعابرٍ بلا معني”.
أما الفصل الخامس والأخير المعنون بـ”ظلال الآخرين” فتقتبس كلمةً لـ”فريدريك نيتشه” بحنكةٍ: “أتعس الناس من ينسى نفسه في سبيل أن يكون صورةً يُعجب بها الآخرون”، وتركز الكاتبة على الحب وتتماهى مع الحب بمعناه الواسع حين تصور من يحبوننا بصمتٍ ونتجاهلهم، ولا ندري بقيمتهم إلا بعد فوات الأوان”.
كما تصف الكاتبة حالة الخذلان في الحب وهي تحاورنا بالقول: “إنه لأمر مؤلم أن تحب أحدًا بكل قوتك، ثم تجده يتلاشى أمامك ببطء، وأن تحاول الإمساك به لكنه يصبح سرابًا، أن تناديه باسمٍ كان يومًا يعني له العالم، لكنه لم يعد يلتفت، لم يعد يسمعك، أو ربما يسمع لكنه لا يكترث”.
وتنتقل بنا الكاتبة إلى رؤيةٍ تأمليةٍ فلسفية حين تحاورنا بمقالةٍ بعنوان: “الناس والإنسانية”، حيث تتساءل كيف تبدو كلمة إنسان غريبة، لكنها مليئةً بالألغاز، كيف أصبح إنسانًا، هل هناك وصفة سرية؟..، هل نولد حاملين لهذه الإنسانية أم أننا نكتسبها مع مرور الوقت؟ هل نحن من نقرر أنه إنسان؟ أم أن أفعاله تحدد ذلك؟.
وتخلص إلى القول: “إن الإنسانية سلوك يظهره الإنسان في كل تعاملاته، في كل لحظةٍ يختار فيها أن يكون لطيفًا، صادقًا، ومتفهمًا”.
كما تشرح الكاتبة حالة الإنسان الذي يشعر بالوحدة رغم الأيدي الممتدة، وتشخّص حالته وكأنها تخاطبه حين تقول: “هناك أشخاص يمسكون بيدك حين تسقط، لكن قليلون من يمسكون بقلبك قبل أن ينهار… وتخلُص إلى نتيجةٍ بأن الوحدة الحقيقية ليست في الغياب، بل في أن تكون حاضرًا بين الجميع، ولا يراك أحد”.
وتستمر الكاتبة بإدهاشنا بعناوين شيقةً ومعبرةً ومبتكرة حين تعنون مقالتها بـ”السير بأحذية الآخرين”، وهو عنوان مجازي تصف حالنا حين نجبر بأن لا نكون أنفسنا، وتعبر عن ذلك بقولها: “كم مرةً لبس طموحًا لا يشبهه؟ وسار في مهنةٍ لا يُحبها، وعاش في زواجٍ لا ينتمي إليه، فقط لأن أحدهم قال” هذا هو الطريق الصحيح؟”.
وتصل الكاتبة بتصويرها البديع إلى القول: “إن أحذية الغرباء قد تكون كلامًا، أو أحكامًا، أو أحلامًا موهومة نُقشت فينا منذ الصغر.. لكن الحقيقة أن لا أحد يستطيع السير طويلًا في حذاءٍ لا يشبهه دون أن يصاب بالعرج”.
وتواصل الكاتبة فكرتها الخلّاقة بالقول: “الحرية لا تبدأ بالتمرد، بل من الخلع….، أن تعود حافيًا لتتعلم المشي من جديد، ولو ببطء، ولو على أشواك الحقيقة، لكن بخطواتك أنت”…
وتستمر الكاتبة في تضميد الجراح لتجارب إنسانيةً كثيرًا ما نعاني منها بشكل أو بأخر، حين تؤكد أن كل شيء حُرمنا منه رُحمنا من شره، فربما كنتَ تدعو أن تناله، بينما السماء كانت تكتب لك ألا تلمسه، لا قسوةً عليك، بل لطفًا بك.
وتُتقن الكاتبة اختيار عناوين خواطرها المبدعة فمثلًا خاطرة بعنوان: “حين ينطق الصمت”، تصور لنا كيف أن الكبت يؤدي إلى صراع مكتوم، ينمو ويتضخم… وأننا نكتشف أن الإصلاح الحقيقي يبدأ من الداخل في إيقاظ أنفسنا من سباتها”.
وتختتم بالقول: “إن مواجهة مخاوفنا هي الخطوة الأولى نحو نجاتنا الحقيقة”.
وهكذا يغوص بنا الكتاب الملهم في أعماق النفوس، ويبحث عن التفاصيل الصغيرة المؤثرة التي لا نُلقي لها بالًا، ويقدم لنا دفقاتٍ من الأمل كي نواجه الحياة بروحٍ جديدة.
والجدير ذكره في هذا السياق أن الكتاب الذي قدمته بعنوان: “حين تزهر الرمال..” هو كتابها الرابع، فقد سبق لها أن ألّفت ثلاثة كتبٍ وهي مازالت في مرحلة الدراسة الثانوية، فكتابها الأول بعنوان: “كن ربان سفينتك”، والثاني “لمعة الأفق”، والثالث “واصل المسير”.

