مرحبا بقداسة البابا في بلاد الرافدين!
بقلم #سلام_موسى_جعفر
تعودنا، مع كل حدث يقع، على رؤية اصطفاف أصحاب المواقف المُسَبقة في معسكرين متناقضين في الفضاء الأزرق، فينقسم المدونون بين مؤيد متطرف ومعارض متطرف، فكيف الأمر مع حدث كبير مثل زيارة الحبر الأعظم الى العراق؟ حيث وجدت نفسي تائهاً وسط أدغال التطرف العاطفي المُرحبة بزيارة البابا فرنسيس، ووسط أدغال ما يسمونهم أصحاب نظرية المؤامرة. والحق يُقال أن أدنى تشكيك بأهداف الزيارة صارت تُهمة تستوجب السخرية من صاحبها!
نحن بحاجة الى مواقف متوازنة ورصينة، تقرأ وتُحلل وتُحاور، تبتعد عن لغة الاتهام والتخوين والتهكم أو فرض الاستاذية على الآخرين. فلا أحد منا يحتكر لوحده القدرة على التفكير والتحليل. وما أراه حقيقة، قد يراه المُقابل وهماً. المُشكلة ليس في الرأي المُخالف بل تكمن بوجود أمثال هذا الذي يُعيرنا لمجرد اختلاف الرأي. فيُعيب علينا التفكير، مجرد تفكير، بربط الزيارة بالوضع السياسي القائم. وإلا فنحن بنظره من أصحاب نظرية المؤامرة. فصار يخشى أن يُضْحِك تفكيرنا المُسْتًقل العالم عليه. وذاك الآخر يريد منا أن نُلغي خاصية التفكير من عقولنا وندعمه باتهام قداسة البابا بقيادة مؤامرة حيكت في غرف المخابرات المظلمة! وتحت قيادة "الأعور الدجال"
الفاتيكان هي مؤسسة دينية ذات طابع سياسي، قامت بلعب أدوار سياسية على مر التأريخ، مُمَثلها الأعلى المُنتخب هو قداسة البابا. قد تختلف بعض مواقف البابا الحالي أو أفكاره عن أفكار ومواقف أسلافه أو أفكار سائر نخب المؤسسة، ولكنها في كل الأحوال تدور في نفس الإطار العام مع بعض الخروقات المسموح بها. أفكار الشخص الذي يتولى البابوية معروفة سلفا قبل انتخابه لمنصب الحبر الأعظم. ويستحيل معها صعود بابا جديد لا تتوافق أفكاره مع أفكار اغلبية القساوسة التي تُناط بهم مهمة الاختيار. قد يكون البابا شخصية بسيطة،،متواضعة، سلس في تعامله وشخص طيب وصديق للفقراء، وقد يكون شخصاً متعجرفاً وصديق للأغنياء. إلا أن المواقف السياسية لهذا البابا او ذاك تُحددها طبيعة المرحلة التاريخية وليست شخصيته فقط.
فعلى سبيل المثال، فإن زيارة البابا الى كوبا وبلدان في أمريكا اللاتينية تتبع نهج يساري، لا تمنح البابا آلياً عضوية "لاهوت التحرير" كما يذهب البعض. فقد تمت زيارات البابا تلك في أجواء اتسمت بانتهاج الولايات المتحدة الامريكية، في عهد الرئيس أوباما، سياسة جديدة اتجاه هذه البلدان، كان الهدف منها احتواءها. وأوباما نفسه زار كوبا كما يعرف الجميع.
أما المواقف الفكرية للبابا فرانسيس والإصلاحات التي قام بها أو دعا اليها، فهي ضرورية للمؤسسة الدينية حتى لا تعزل نفسها عن التطورات الحاصلة في المجتمعات. بمعنى مُواكبة العصر. وهذه المواقف ليست جديدة في تاريخ الكنيسة. وهي تعكس مرونة، اضطراريه بعد فترة من التصلب، عودتنا عليها الكنيسة الكاثوليكية الرومانية على مر التأريخ أمام تطور العلوم والمجتمع. لأن الكنيسة لا تستطيع السباحة عكس التيار.
المسيرة التاريخية للبابوية التي شهدت سلسلة من الانقلابات على أنماط التفكير السائد وسط الكنيسة الكاثوليكية، من صكوك الغفران ورفض الاعتراف بكروية الأرض الى غض النظر عن الإلحاد الذي صار يستشري في اوربا، تؤكد على أن هذه الانقلابات اضطرارية تلجأ إليها كي تواكب العصر. وإلا سوف تفقد أتباعها.
قد يكون البابا فعلاً شخص مخلص في نواياه من هذه الزيارة. وهو في كل الأحوال مَحَط احترام وتقدير. إلا أن توقيتها والإصرار على اتمامها في ظل مخاطر تفشي كورونا، وفي أجواء أمنية مُقلقة، وفي ظل وضع سياسي يُنذر بوقوع أحداث جسام، وفي أجواء نشاط دبلوماسي وعسكري غربي لإخضاع الحكم في العراق الى الهيمنة الأمريكية المطلقة خلال هذا العام، ومع تصاعد الدعوات الى التطبيع، لا بد أن يُثير كل هذا استغراب العديد من الأشخاص الذين تعودوا على التفكير الحُر خارج إطار المواقف المُسبقة. أشخاص تعلموا قراءة الواقع وطرح الأسئلة أولاً على أنفسهم ومناقشتها قبل إعلان مواقفهم الى العلن.
ستكون لزيارة البابا لبلاد الرافدين بلا شك تأثيرات على الوضع السياسي. أغلب ظني أن موقع الكاظمي سوف يتعزز. كما ستتعزز مواقع شركاءه من الأحزاب الموالية له سواء من الوسط والجنوب أو من المنطقة الغربية وكذلك أحزاب وسلطتي الإقليم في العملية السياسية التي قرر الغرب أن يحتكر الهيمنة عليها خلال هذا العام.
بكلمات أخرى فإن الضيف العزيز على أهالي بلاد الرافدين، قد مَنح العملية السياسية التي جلبت الكوارث تلو الكوارث الى العراقيين، لنَقُل دون أن يقصد، شرعية تُكرس صناعة المزيد من الكوارث. كما أضفت الزيارة، ولنَقُل دون قصد أيضاً، على احتلال بلادنا شرعية يحتاجها المُحتل وشركاءه في الناتو.
أضف إلى كل ما مرَّ، فإن اختيار توقيت زيارة أور مباشرة بعد اختراع "الابراهيمية" كغطاء ديني تحتاجه عملية التطبيع، سواء كانت أور مسقط إبراهيم فعلاً أو لم تكن كذلك، وسواء كانت شخصية إبراهيم حقيقية أو وهمية، يوحي بوجود رابط بين الزيارة وبين الدين المُصنع في مراكز البحوث وغُرف المخابرات التي لم تَعُدْ مُظلمة.
المُتابع لمسار الابراهيمية لن يتردد لحظة واحده عن اثارة الشك بهذه الزيارة، بغض النظر عن مساهمة البابا الشخصية في هذا المسار من عدمها. المسار الابراهيمي يعتمد على تزوير التأريخ والانطلاق من فكرة ان صراع الأديان هو السبب الذي يقف وراء كل الحروب في المنطقة. وإذن ليس أمامنا غير التسامح... التطبيع... ثم الاتحاد الفيدرالي تحت قيادة من يمتلك التكنولوجيا في المنطقة، لينتهي بتدويل الأرض على اعتبارها مسقط رأس الجد المشترك للأديان التوحيدية الثلاث.
التعبير عن هذه مثل هذه المخاوف لا ينطلق من نظرية المؤامرة، وانما من قراءة المشهد والتعمق في القراءة.
فالتاريخ ليس مجموعة من المؤامرات، ولكنه لا يخلوا من وجود مؤامرات. ومنها مؤامرة اختراع الابراهيمية. ولست مستعداً لإلغاء عقلي فأنفي وجود تآمر مسبق. ثم ان الاتهام بنظرية المؤامرة هو بحد ذاته إرهاب فكري مباشر.
واذا كان الانطلاق من نظرية المؤامرة يقود الى انتفاء الحاجة الى قراءة الواقع وبالتالي يؤدي الى الاستغناء عن التفكير وبالتالي الى التبلد، فان إنكار وجود احتمالات التآمر سيكون بمثابة سذاجة تُلغي عملياً التفكير ايضاً. الطريقة المُعيبة لاستقبال البابا وحدها حملت أكثر من مؤشر على احتمال وجود خيوط قوية من التآمر، وليست سوء تنظيم يعكس بلادة وغباء المنظمين.
لستً معنياً أن تُسبب قراءتي للمشهد بعض الحرج لمن يشعر بضحك العالم عليه، فهذه مشكلته هو وليست مُشكلتنا. سذاجته وشعوره بالنقص لن تمنعنا عن التفكير خارج القوالب ولن تُعيقنا عن تحليل الظواهر الطبيعية والمُصنعة.
_________________
#الحديدةنيوزاكسبرس
#عبده_بغيل